مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الاثنين، 28 فبراير 2011

مشهد عادي في مدينه عبثية !!!!


أغلقت شرفتي
لأني لا اريد أن اسمع البكاء
لكن من وراء الجدران الرمادية
لا يُسمع إلا البكاء ..


""لوركا""




( 1 )

اقتربا لحد يستحيل لأحد يفرق بينهما ... تلاحما ، تلاصقا ، لاتعرف ذراع من ولا قدم من ... كأن الجذعين انبتا اربعه اقدام وراسين .. كأنهما من جذر واحد انبت جسديهما المتلاصقين ..ملامحهما متشابهه ، شعر اسود وحواجب كثيفه وعيون غاضبه وعروق نافرة وكراهية تجري في العروق والشرايين ، كأن الكراهيه تخرج من انفاس هذا لصدر هذا ومن عرق هذا لجسد هذا .. معجونين بالصراع بينهما ، ابناءه وابناء لحظته الفارقه ..نصل لامع يقترب من شرايين رقبه هذا وخنجر مشحوذ يقترب من عضله قلب الاخر ..مالهما يقفزا يبعدا يعودا يقتربا ، مال الاسلحه تمزق الصمت والهواء وتعوي تبحث عن دم تشرب منه يروي عطشها سنين طويله ، اخوين هما ؟؟ اقارب ؟؟ اب وابنه ؟؟ جارين ؟؟ توأم متشابه خرج من بويضه واحده ؟؟ لااحد يعرف ولا يكترث !!! يبعدا ويقتربا ، يقتربا ويبعدا ، يتلاصقا ، يتلاحما ، تكاد الانصال تنهي المعركه ، لكن مازال للعمر بقيه فتفلت الشرايين بعيدا والرجلين مازالا يتعاركا ....

( 2 )

دائره واسعه من المتفرجين تحيط بالرجلين ... نساء تضحك وهي تتابع حركاتهما البلهوانيه ، صغار يتأملوا المشهد ويحفظوا كل حركاته وكانهم يستعدوا لتقليدهم وقتما ينتهي الصراع ... رجال بعيون غاضبه يلاحقوهما ، يبتسم احد الشباب سعيدا بذلك الصراع ، ولما لا ، من قال ان علينا اللجوء للقانون ، من قال علينا كظم الغيظ ، من قال علينا الا ناخد حقوقنا بايدينا ، جبناء متخاذلون من قالوا هذا الكلام ورددوه علي اسماعنا حتي صدقناه ، خبطت واحده من السيدات علي صدرها ، الجدعان حيموتوا بعض ، استنكر الكثيرين كلماتها ، نعم ، احدهما سيموت الاخر ، وهذا سر المتعه وسبب اجتماعنا ، الجميع يقف يشاهد الصراع الذي لن ينتهي الا بدماء تسيل علي الارض وروح ترحل مهزومه وتترك الاخر منتصرا متوحشا يبحث نصله المشحوذ عن شرايين جديده يمزقها !!! نظروا لها نظرات مخيفه فخرست ، همست صديقتها ، لو قلبك رهيف روحي ، نفت التهمه عن نفسها ، رهيف مين ، طب ده انا بقالي اسبوعين واقفه مكاني اتفرج ولا خفت ولا طرف لي عين ، ابتسمت صديقتها تشجعها ، ايوه كده ، يعيش الحريم الجدع !!

دائره واسعة من المتفرجين تحيط بالرجلين ، الدماء الجافه تلتصق بالاسلفت تحت اقدامهما ، هذه دماء من مات امس ، وهذه دماء من مات الاسبوع الماضي ، الرجل الذي مات من يومين لم يمتع المشاهدين وسقط علي الارض فجأ بسكته قلبية ، وقتها صرخ المتفرجين غضبا ، وكانهم يلوموه لانه لم يمنحهم دمائه ، عجوز يتابع الصراع ويهز راسه لايعجبه مايراه ، شغل غشم ده ، ناس مش عارفه تخلص بسرعه ، ضحك رجل بجواره ، ما تقلقش يابا ، كلهم بيقوا كده في الاول غشم وخايفين ، بس خطوه في التانيه وربنا بيفتح عليهم ، تلاقي السلاح بقي في ايده ملبن ، يتحكم فيه تقولش مولود بيه ، ابتسم العجوز ، ايامنا كان هي ضربه واحده بالجدعنه والاصول تخلص الخناقه ، جاره بالعيون الغاضبه والعروق النافرة انفعالا وحماسا صرخ فيه ، استني يابا بس خلينا نعرف نتفرج ، حتقولي ايامكم وايامنا ، مش وقت حصص ودروس يابا ، ارتبك العجوز ، قصدي يعني كان حقهم اتدربوا قبل مايبتدوا ، نظر له الرجل نظرات غاضبه اخرسته ، محدش فاضي يتدرب يابا ، استني بس خلينا نركز ، اصبر عليهم شويه وحيعجبوك خالص ، صمت العجوز وثبت نظره علي الرجلين ، يتلاحما ويقتربا ويبتعدا والانصال تسطع وصوت الهواء الممزق بحده الضربات المخيفه يصفر في كل الاذان ، طفله صغيره تحاول تخفي عينيها خوفا ، تسحب الام اصابعها الرفيعه من فوق عينيها ، يابت بصي وشوفي بيعملوا ايه ، يقولوا علي ايه جبانه ومعرفتش اربي ، همست الصغيره انا مش جبانه بس مابحبش منظر الدم ، سمعتها صديقه امها ، اتعلمي تحبيه ياحبيبتي والا حتمشي تغمضي عينيك علي طول وماتعرفيش تعيشي ، ثم نظرت لامها ، لو كنت لغمطيتها بالدم ايديها ووشها مره ولا مره ، كان قلبها جمد ، هزت الام رأسها وهي تتابع صراع الرجلين ، ملحوقه ، بكره ولا بعده اعمل كده ، خبطتها الصديقه علي كتفها ، وبكره ليه ، لما يخلصوا والدم سخن ، خديها لمغطي وشها وايدها في الدم ، الخضه تروح والبت قلبها يجمد ، وافقتها الام ، خلاص بس علي الله مايتأخروش لحسن ورايا طبيخ !!!!

( 3 )

انفجرت الدماء عنيفه ، كانها شلالات ، تناثرت في الهواء ، لطخت بعض الوجوه والملابس ، صرخ المتفرجين فرحا وصفق الكثيرين منهم ، زغرطت واحده من السيدات بصوت عالي فقلدتها الاخريات ، تحمس بقيه الجمهور فانفجروا في عاصفه عاتيه من التصفيق ، همهمات وادعيه وكاد احدهم يهتف ، لكن الاخرين لاموه ، للموت حرمه برضه بلاش هتاف ، صوت الزغاريد مازال عاليا والدماء مازالت تفح وتتناثر في الهواء ، مين مين ، ها ؟؟ يسال الجمهور بعضه ، مين الي خلص علي مين ؟؟ لايعرفوا بعد ، الرجلين المتلاحمين ازدادا تلاحما ، الدماء تخرج من كتله تلاحمها ، لاتعرف من فيهما ذبح الاخر ، الدماء التي اثارت جمهور الحاضرين لم تفصح عن هويه صاحبها ، الرجل مال علي العجوز وقاله ، مش قلت لك يابا شويه وحيسخنوا ، كان عندي حق ، هز العجوز راسه ، براوة عليهم والله ، اكدت السيده علي صديقتها ، قبل مالدم ينشف علي الارض ، اول مايشيلوا الجته تاخدي بنتك وتعالجيها ، وافقتها السيده فرحه ، علي طول فريره ، بس والله طلعوا ولاد حلال ، خلصونا بسرعه ، كنت قلقانه يتأخروا ، ضحكت السيدة ، لايتأخروا ايه ، ده ساعات بسرعه بسرعه جوزين تلاته يخلصوا علي بعض ، قبل ماتبصي يكون الدم طرطش ، صحيح وقتها ما بنبسطش قوي لكن يعني اهو مسح زور احسن من قلة !!! الدماء مازالت تتناثر في الهواء ، تسقط بقعه كبيره علي وجه احد الرجال فيمسحها باصابعه ويلوح بها لبقيه المتفرجين وكان ناله شرف لم ينالوه ، سيدة تدفع الرجال لتخرج من وسطهم ، شويه رجوله بقي مش عارفه اتفرج ، يوسع لها الرجال ساخرين ، وماله قدمي واتفرجي ماتخليش في نفسك حاجه !!! التصفيق عالي والزعاريد اعلي وصوت الروح التي تخرج من الجسد المذبوح تفح في الهواء والكتله الممتزجه بجسد الرجلين وروح واحده تتارجح علي الارض والدماء تتناثر منها في كل مكان ، هل كثره التصفيق وارتفاع صوت الزغاريد زاد حماس تلك الكتله المذبوحه لتمزق بعضها البعض اكثر واكثر ؟؟؟؟؟؟

( 4 )

رفع الجمهور اصابعها صوب السماء يهمسون ، لا اله الا الله ، وبعض الاقباط علي جنب يصلبون علي صدورهم ويتمنوا الرحمه للذابح والمذبوح باسم سيدهم ، سيده تكاد تبكي ، لكنها تتمالك نفسها ، يدخل المسعفون للحلبه ، يرفعون الجسدين ، نعم هذه هي مفاجأه اليوم ، كل من الرجلين قتل الاخر ، ذبحا بعضيهما البعض بسرعه وبراعه ، امتزجت الدماء فوق الاسفلت وتعانق الجسدين والروحين يفارقاهما ، صرح المسعفين ، لاناجي اليوم ، قتلا بعضهما البعض ، صرخ العجوز ، لا اله الا الله ، وصفق الحضور ، المشهد اكثر امتاعا مما يتصوروا ، تابعوه بجهل لم يدركوا قدر المتعه التي منحها لهم الرجلين ، لاناجي اليوم ، احتار المسعفين ، نقاله واحده احضراها ، لم يضعا ذلك الاحتمال في حسابهما ، يقتل الرجلين بعضهما بمنتهي البراعه والخفه والسرعه ، لاحد ينجو من الذبح ، الانصال قتلت الاثنين معا في نفس اللحظه ، الشرايين تمزقت في ذات الثانيه والدماء انفجرت معا تودع الارواح الراحله للسماء والجسدين المذبوحين !!! اقترب المسعفين من الرجلين ليحملا احدهما ثم يعودا للثاني ، لكن الرجلين المذبوحين متعانقين متلاحمين لايمكن فصل جسديهما المذبوحين عن بعضهما ، رأسيهما تتدلي علي جانب الاجساد المتلاحمه المذبوحه ، ابتسم المسعف واخبره زميله ، لنرفعهما معا ونخلي الساحه ، وافقه الزميل ، تقدم بعض الرجال ليعاونوا المسعفين ويحملا الجسدين المتلاحمين معا ، صفق الجمهور اعجابا ، يحي القتيلين ، لهما سبق سيسجل باسمائهما اليوم ، الرجلين قتلا بعضهما في نفس الثانيه !!!! هذا سيكون مانشت الجريده النهاريه وموقعها الالكتروني !!! حمل المسعفين الجثتين متلاحمتين وخرجا من الساحه ، هرعت السيده تجر ابنتها الصغيره لتمرمغ وجهها وكفيها في الدماء الساخنه ، يابت ماتخافيش ، شمي ريحتها وحسي بيها ، عادي ، لاحتاكلك ولا حتموتك ، الصغيره ترتعد والدماء الساخنه تسيل علي وجنتيها واصابعها تلتصق بالدماء اللزجه ، الام تدهن وجهها مره واثنتين بالدماء الساخنه وتكاد تلعق اصابعها بلسانها لتنظفهم من الدماء الملتصقه بها ، رجل يصورهما بكاميرا صغيره ، حانشر الصورة واقول للامهات ازاي انت عالجتي بنتك بطريقه عمليه وبسيطه ، تبتسم السيده وترفع صباعيها بعلامه النصر تسيل منهما قطرات دماء صغيره !! يجلس بعض الجمهور علي الرصيف ينتظر بدايه الحفله الجديده ، يمر عليهم بائع الشاي ، يشعل احدهم سيجاره ، تخرج سيده تجلس علي الارض من حقيبتها سندوتشات لصغارها ، تصبيره علي الحفله التانيه تخلص ونروح ناكل في البيت ، يبكي صغير، عايز بطاطا ، يحمله الاب علي كتفه ويبحث عن بائع البطاطا ، تسال شابه خطيبها ، انت بتيجي كتير ، وافقها ، كتير اوي ، نظرت له بدلال ، انا مخاصماك تيجي لوحدك وتسيبني ، ابتسم الخطيب ، ماتزعليش مني مش حاجي لوحدي تاني ، سالته بدلال اكثر ، وعد ، قبض علي اصابعها مبتسما ، وعد ، تركت له اصابعها وصمتت !!!!

( 5 )

اقتربت مذيعه من الجمهور تسالهم ، حد يعرف ليه قتلوا بعض ، ضحك الرجال ساخرين من سؤالها الغريب ، عادي حضرتك يعني ، اجابها بياع البطاطا ، لوح بعض الصغار للكاميرا مبتسمين ، اقترب شيخ عجوز بعمامه خضرا ، انا يابنتي ااقولك ، بيقتلوا بعض عادي ، لاي سبب ، كبير صغير، خناقه علي فلوس ، غسيل نقط ، بت اتفسخت خطوبتها ، راجل غني وموظف عنده ، ضابط وحرامي ، واحد صحي التاني من النوم بسبب صوت الكاسيت العالي ، واد عاكس بنت التاني ، اسباب كتيره قوي ازاي حضرتك يعني عايزانا نحصرها ، اسباب كتيره قوي ، قبطي ومسلم ، راجل من المعارضه وراجل من الحكومه ، واحد ركن عربيته في غير مكانها ، عادي يعني حضرتك !!! ابتسمت المذيعه ، طيب ولما بيتخانقوا بيحصل ايه ، ضحك الرجال المحيطين بها ، اقتربت منها سيده تحمل صغيرا يمسك سندوتش بيده ، افهمك انا ياست هانم ، خناق مافيش ، دوشه وشتيمه وقله قيمه مافيش ، ده كان زمااااااااان ، دلوقتي لا ، لاحد بيتخانق ولا بيضيع وقته ، اللي ليه حق ياخده من رقبه التاني ، وبسرعه بسرعه الدور يخلص ، لوحت للكاميرا ، اصل بقيه العيال في البيت ، شرحت للمذيعه التي تعجبت تصرفها ، وافقها بائع البطاطا ، الخناق كلام فاضي وبطلناه من زمان ، كل واحد سلاحه في جيبه وجاهز ، اللي زعلان من حد يجره علي هنا ، وكل واحد يحاول يدبح التاني ، اللي يفلح يبقي صاحب حق واللي يتدبح يبقي اكيد مفتري وربنا كاتب له يموت مدبوح !!! قفز الرجل العجوز ، النهارده بقي يوم غريب ، الاتنين دبحوا بعض ، ضحك الناس كلهم ومعهم المذيعه ، واضح الاتنين كانوا مغلولين من بعض قوي ، علشان كده وبسرعه خلصوا علي بعض ، هز راسه اعجابا وتعجبا ، الحق ماشفنهاش قبل كده ، لكن ادينا كل يوم بنشوف جديد !!!

شكرت المذيعه الجميع واعطتهم ظهرها وخاطبت جمهورها ..... من ساحه الدم احييكم بعدما نقلت لكم علي الهواء مباشرة و.............. رفع الجمهور صوته يصقف ويزغرد ويهتف ، صخب عالي الصوت اضاع صوت المذيعه فلم يسمع الجمهور في البيوت بقيه كلامها !!!!

( 6 )

صرخ المخرج ............. ستوب !!!!
ارتبكت المذيعه والجمهور .................... ساد الهرج والمرج ، اصوات ضحكات وصراخ وغضب !!!
صرخ المخرج في الميكروفون ..................... ستوب !!!!
نزل من علي السلم علي الرصيف علي جانب الساحه ... توجه وسط الجموع الحاشده والمتفرجين ، اقترب من المذيعه ، ضربها بالقلم علي وجهها ، لم تبكي وضحكت ، صرخ فيها ، حاصور المشهد ميت مره ، مش عارفه تقولي كلمتين علي بعض ، ايه القرف ده ، التفت حوله الجمهور ، ماتزعلش نفسك ، نعيد تاني ، ناوله احد الجمهور سيجاره ، هدي نفسك بس ، مااحنا قاعدين والساحه موجوده مش حتطير ، نعيد تاني احنا ورانا ايه ، التفت المخرج حوله وهو ينفث الدخان من انفه ، الامر لله نعيد تاني بس ... وتلفت حوله ... بس مين حيدبح مين دلوقتي !!! ضحك الرجال ، يووووووووه كتير قوي ما تشغلش بالك ، اشار احد الرجال لاخر ، تيجي انت ، هز راسه بحماس شديد ، الا اجي طبعا ، اخرج سكينا من جيبه ، يسطع نصله تحت اشعه الشمس ، اشار لاخر يقف في الطرف الاخر من الدائره الواسعه حول الساحه ، تيجي ؟؟ قفز الاخر من مكانه ، طبعا ، ده انا مستني اليوم ده من زماااااااااان ، ، اخرج من جانب بنطلونه سيفا طويلا وارسل قبلات لاصدقاءه بجواره ووقف في وسط الساحه ، ابتسم المخرج واشار للمصورين ، خلوا بالكم من ايدي ، مش حاعيد تاني ، عايز اروح بدري ، عيد ميلاد بنتي ومش عايزها تزعل ، هرع الرجل الاول بسرعه للساحه وهو يقبض علي سكينه ، نظر المخرج للمذيعه ينبهها ، اصحي ، قبل مايبتدوا تساليهم سؤالين وبعد مايخلصوا تركزي مع الجمهور ، هزت راسها ، خلاص والله فهمت ، سماح بقي ، اقتربت منه هامسه ، عندي مغص وتعبانه ، فاهمني طبعا ؟؟ ضحك ، فاهمك ، طيب ااقدر اعمل لك حاجه ؟؟ نظرت له ساخره ، سافل وقليل الادب بجد يعني ، ماشي ، حاروح اخد منهم كلمتين قبل ماتبتدي ؟؟؟؟
الرجلين يقفا وسط الساحه ، شاهرين اسلحتهما في السماء ، علي وجهيهما ابتسامه وفي عيونهما نظرات غضب وتحدي !!!
تقترب المذيعه من الرجلين ، يصفق الجمهور وتزغرط النساء ، تعطي الرجلين ظهرها وتنتظر اشاره المخرج !!!
5 ، 4 ، 3 ، 2، 1 .. من ساحه الدم احييكم ونذيع علي حضراتكم وعلي الهواء مباشره احدث فاعليات الساحه ، اعطت وجهها للرجلين ، اتعرف علي حضراتكم ، يلوح الرجلين باسلحتهما في السماء ويبتسما و.................... يتابع المخرج المشهد علي شاشه الكاميرا بسعاده ، يهمس في الميكريفون الموصل باذن المذيعه ، ماتطلويش في الكلام علشان الناس ماتزهقش ، كلمتين واخرجي بسرعه وسيبيهم يبتدوا ، يري المذيعه تهز رأسها وبسرعه ........... يصفق الجمهور وتزغرط النساء ويرتفع الهتاف وتخرج المذيعه من وسط الساحه !!!!

( 7 )

......................... يبعدا ويقتربا ، يقتربا ويبعدا ، يتلاصقا ، يتلاحما ، تكاد الانصال تنهي المعركه ، لكن مازال للعمر بقيه فتفلت الشرايين بعيدا والرجلين مازالا يتعاركا ......................... انفجرت الدماء عنيفه ، كانها شلالات ، تناثرت في الهواء ، لطخت بعض الوجوه والملابس ، صرخ المتفرجين فرحا وصفق الكثيرين منهم فرحا ونشوة ......................... وقفت المذيعه بجوار الجثه الملقاة علي الارض وبجوارها الاخر يحمل سلاحه تقطر منه الدماء مبتسمه وبحماس شديد زفت لجمهورها ... من ساحه الدم كنت معكم علي الهواء مباشرة واخر فاعليه لهذا اليوم ، وكما ترون القتيل علي الارض والفائز بجواري منتصرا و..... يصفق الجمهور ويرتفع صوت الفرح عاليا و............. يصرخ المخرج ............. ستوب !!!
يبتسم القاتل فرحا ويعود لاصدقاءه يحيوه ويصفقوا له ونصل سلاحه يقطر دماء ساخنا !!! وتتحرك الجماهير وتترك الساحه لينظفها العمال بعدما رفع المسعفون الجثه و............. نتقابل بكره ان شاءالله ، بس ماتتاخروش !!!

( 8 )

احتضن المخرج ابنته الصغيره وقبلها واعطاها بفرحه العروسه الجميله التي اشتراها لها هديه عيد ميلادها وجلس باسترخاء علي مقعده الوثير يتابع نشره الاخبار تذيع اخبار البرلمان والانتخابات مبتسما سعيدا ، انه حقا بلد ديمقراطي سعيد !!!!!!
ارسلت المذيعه فستانها الابيض للتنضيف بعدما تساقطت عليه بضعه قطرات من الدماء اثناء التصوير وجلست في المغطس الرخامي الفاخر في منزلها تدعك جسدها بقوه لتزيل منه رائحه الدم وهي تبكي ، مازالت تخاف من الدم ولو عرفوا عنها هذا لرفدوها من عملها !!!
حكت السيده لزوجها عما فعلته في ابنتها الصغيره ، قصت عليه ماقاله الصحفي الذي التقط لهما صورة فوتغرافيه ، ابتسم الزوج ، شاطره ياام محمد ، من يوم مااتجوزتك وانا عارف اني متجوز مرة ناصحه !! ابتسمت ام محمد ولم تخبره ان لمغطه الصغيره بالدماء كانت فكره صديقتها !!!!
عاد القاتل لمنزله ، سلم زوجته السلاح ، زغرطت وقتما شاهدت الدم الجاف فوق النصل ، ابتسم مرتبكا ، بتزغرطي ليه ياوليه ، عادي هو انا بس اللي قتلت ، ماكل الناس بتقتل وكل يوم ، احتضنه الزوجه ، فرحانه برجوعك بالسلامه ، ايه مافرحش !!! اثاره ريحه جسدها مختلطا بالدماء التي تلطخ ملابسه ، احتضنها بقوه ففهمت مالذي يريده منها!!!!

( 9 )

امام التلفزيون ، جلس الملايين يشاهدوا البرنامج الاشهر ، لقطات سريعه يعرضها البرنامج ، الشيخ العمامة الخضراء يقول " بيقتلوا بعض عادي " ، سيدة " ترفع صابعيها بعلامه النصر تسيل منهما قطرات دماء صغيره " ، القاتل يرفع سلاحه سعيدا منتشيا ... يغلفهم صوت المذيعه و.......... الي يوم جديد وفاعليات اخري من ساحه الدم ، الساده المشاهديين نحييكم ونتمني لكم احلاما سعيده !!!!
تبتسم المذيعه وتطلب المخرج في التليفون بصوتها الناعم المنخفض ... الحلقه تحفه !!! يضحك صاخبا ... اخبار المغص ايه ... تبتسم وتهمس بصوت مثير ... سافل سافل يالا تصبح علي خير !!!
ونامت المدينه نوما هادئا كعادتها ...

( 10 )

الساحه خاليه .... الدماء الجافه ملتصقه بالاسفلت وفوق الرصيف ، بقع متناثره كثيره !!!
الشمس مازالت تكابد الليل لتشرق .... الكناسين جمعوا القمامه ونظفوا الساحه وتركها تنتظر جمهورها اليومي !!!
رجل ، رجلين ، مجموعه نساء ، شباب زوغ من المدرسه وجلس علي جانب الساحه ، مجموعه رجال عائدين منازلهم من نبطشيه الليل يجلسوا علي الرصيف علي طرف الساحه يشربوا شاي و............. تزدحم الساحه .... وتزدحم اكثر تنتظر بدء فعاليات اليوم الجديد !!!!


أغلقت شرفتي
لأني لا اريد أن اسمع البكاء
لكن من وراء الجدران الرمادية
لا يُسمع إلا البكاء ..

""لوركا""

الأحد، 27 فبراير 2011

صورة تذكارية !!!! ا






بيوت صغيره متلاصقه متشابهة، وكأن القبح نسجها من خيط واحد !!! متلاصقه كانها تتساند كيلا تسقط او لتسقط جميعها معا في أن واحد !!! لانري فيها ابتسامه ولا تلمح فرحه ولا تسمع صوت حنون !!!! قاطنيها يعيشوا ترقب وقلق مجيء تلك اللحظه الغادره التي سيستل فيها كل منهم سلاحه ويدافع عن حياته حتي الموت !!!
علي الاسطح مع ابراج الحمام المهجورة اطباق بث فضائيه تاتي بكل الافكار من كل عقل ومكان لكن اجهزة التحكم الالي ضبطت القنوات علي البرامج الاخبارية تؤكد ان الهزيمه حتمية والنجاة مستحيلة والحياة الاخرة اجمل من الحياة الزائلة !!! ووسط صمت الترقب والانتظار لاتسمع في سكون الليل الا صوت التلفزيونات تحشو العقول الفارغه بلغو ملوث بالاكاذيب يفسد الحياه والعقول ويزيد السواد سودا!!!
علي عتبات البيوت رجال مشعثي الشعر ملابسهم رثه رقيقي الحال نسوا شكل الابتسامه ومعناها منذ قهرتهم الدنيا لمليون سبب مختلفين ، خلف الستائر الثقيله علي النوافذ والشرفات تختبيء نسائهن من غضبهن ومشقه الحياة ومن الفتنه التي ينشروها في الطرقات بين المعذبين بالصمت يقوا انفسهن ويقوا الضحايا شر الغواية وشر التحرش!!!
سحابه من الروائح الكريهه ورائحه الغضب تخنق كل الانفاس وتستجلب الليل مبكرا وتبقيه اسيرا بين البيوت لا يظهر وسط ظلمته الا وهج العيون المتعبه القلقه ووهج انصال الاسلحه البيضاء التي يخبئها الرجال استعداد للحظه موحشه قادمه سيجبر فيها كل منهم بالدفاع عن نفسه وعن حياته بقتل الابرياء الاخرين وربما قتل نفسه ... ليل لاتلمع فيه الا عيون قلقه وانصال مشحوذه لسيوف وخناجر !!!
ابتسموا ... صرخ المصور في البيوت والبشر !!!
تثائبت النساء وتوارت اكثر خلف الستائر السميكة البالية وحاول الرجال يبتسموا لكنهم خافوا يباغتهم الاخرين في لحظه الضعف وهم مبتسمين فتجهموا اكثر واكثر وسطعت الاسلحه البيضاء وانصالها نجوم الليل المخيف وانتشرت رائحه الدم الساخن تزكم الانوف !!!
ابتسموا .... صرخ المصور ثم ضغط علي زر الكاميرا فسطعت الاضواء من فلاش الكاميرا يسجل اللحظه التاريخية الجميله !!!! كان هذا حال المدينة وقت استعدت للتصوير احتفالا بالنصر !!!!
ويالها من صورة !!!

الخميس، 24 فبراير 2011

ليله طويلة من يونيو الهزيمة





ليلة طويلة من يونيو من عام الهزيمة 



انها ليلة طويله مثل كل الليالي السابقة والليالي التي بعدها ... ليله طويلة ...
الجو حار جدا والرطوبه عالية ، عرقها ينساب من الجسد المرتخي مكانه في الفراش بين ثنايا المرتبه وطيات الغطاء القطني خدر في غيبوبه ضبابيه ، الشبابيك الزرقاء مغلقه وخلفها الشيش الخشبي محكم يبطنه اوراق سميكه تمنع ومضات الاضاءه الباهته من الوصول للشارع الخالي الا من رجال الدفاع المدني....
الجو حار جدا والرطوبه عالية ، تنام علي فراشها بثوب بيتي عارية الذراعين ، قطرات العرق تتسلل من مسام جسدها السخن تجري فوق الجلد المتوتر وتتسلل تحت الابط وبين الاصابع ، بجوارها ينام زوجها ، شبه عاري ، العرق ينتفض بين شعيرات صدره وكانه قطرات سقطت من حنفيه خربة ...
تساله بصوت هامس مذبوح ، نمت ؟؟ يهز راسه نفيا وعيناه مغمضتان ، تهمس ، مش عارفه انام !! ارتعاشه صوتها توخز قلبه ، يكاد يشفق عليها لكنه حتي الشفقه لايقوي عليها ، يفتح عينيه ، يبدو وكانه يمنحها ومضة طمأنينه في الليل الصامت الا من صفارات الانذار وزئير الطائرات واصوات شباب الدفاع المدني طفوا النور ، يبتسم لها بحدقتيه ابتسامات كاذبه تعرفها ، لاتصدق طمأنينته ، تبتسم ابتسامه كاذبه وكأنها احست بالامان وتغلق عينيها وتشحذ النوم .... 
خلف مقلتيها الساكنتين ، تري اشباحا وجنود مرهقه متقهقره من سيناء والدماء الساخنه تلطخ وجوههم والقهر يرسم علي ملامحهم المتعبه خذلانا موجعا ، تراهم وكانهم يهرولون بعيدا عن الصحراء التي شربت دماء اخواتهم وماارتوت ومازالت تبحث شرهه جوعي عن جثث لتلتهمها الرمال الخشنه ، تراهم خلف مقلتيها المغمضتين وكانهم يهرولون اطفالا صغارا مرتاعين يبحثوا عن احضان الامهات الدافئه الامنه ، وكأنهم يهرولون من المجهول المخيف للمعروف المخيف ، تراهم يتعثرون في خطاهم يتدافعون خجلين من تراجعهم لكن ارجلهم تقودهم بعيدا عن المعركه التي خدعوا فيها تلقيهم مكسورين صوب الوطن الذي فشلوا في حمايته قهرا بفرض الجبن عليهم اسلوبا عسكريا لم يتدربوا علي معناه وشكل تقهقره ، تتسارع انفاسها وكانها هي التي كانت تجري، كانها هي التي شاهدت زميلها تقصف الشظيه الضالة عمره وتطير رقبته لكن جسده مازال يجري بلا راس ، تشعر رعب الجندي الذي يجري بجواره جسد بلا راس ، تشعره يتمني يحمل الراس التي مازالت عيونها تلمع ليعيدها للجسد الذي مازالت ساقيه تجريان ، ترتبك وتخاف وكانها هي التي اكتست بالدم الساخن يخجلها لانها مازالت علي قيد الحياه وسط موت عبثي يحصد حياه الاحباء والرجال الذين تمنوا يحاربوا بشجاعه فهزموا بمنتهي الخسة والشجاعه والثبات ...
تسارعت انفاسها وبدا وكانها تحلم ، تئن بصوت غريب كانها تبكي ، يلمس ذراعها ، تنتفض ، يهمس يوقظها ، انت بتحلمي ، تفتح عينيها بصعوبه ، لا ، تنسال دموعها يلمحها وسط الليل الحالك لؤلؤ داكن ، يمد اصابعه فوق وجهها يمسح دموعها لكن دموعه تغالبه ، ينتحب ، تنتفض ، تحضنه لكنه يدفعها بعيدا ، لايحتاج شفقه ولا يتحملها ، مهزوم مثل كل الرجال الذين مازالوا علي قيد الحياه بعدما قصفت المعركه والانسحاب باعمار اعز الرجال ، صوت نحيبه اعلي من صوت صفاره الانذار ، تحضنه وتقبض عليه لاتسمح له يفر من حضنها ولا ينسحب بعيدا عنها ، دموعهما تمتزج وقطرات العرق الساخنه المنهمره من جسديهما ، تخترق اذنه صوت نبضات قلبها فيشعر الحياه تجتاحه وهو المهزوم الذي يتمني الموت ، يكاد يدفعها بعيدا ، لكن لزوجه جسدها المعجونه بقطرات العرق تطمئنه ، يسكن في حضنها ويبكي ، تتساقط دموعها فوق دموعه شلالا ويصمتا ....
كم يوم مر علي تلك الهزيمه الغادره ، كم ليله قضاها يبكي لايصدق ان الاكذوبه التي عاشوها وغنوا لها فضحتهم وانكشفت وفقد الرجال الرجوله وانكسرت ظهورهم وارواحهم ، كم ليله قضاها يبكي لايصدق ، يتذكر اصدقاءه ومن فارقوه مبتسمين لانهم ذاهبين لنزهه الحرب وسيعودون سريعا وودعوه بزهو وامل ورغبه قويه في الانتصار بعضهم مات وشربت الصحراء دماءه وبعثرت جسده للنواهش ولم تحميه وكيف لها وقد مات وهي يعطي العدو ظهره ويجري فخجلت الصحراء منه وحين سقط فوق دمائها اشفقت عليه وبكته لكنها لم تصنه في قلبها الرحيم ولم تغطي برمالها جسده المتبعثر ، من مات من اصدقاءه مات اما اغلبهم فقد عاد مكسروا مهزوما اخرس يحكي قصص عبثيه تمزق بقايا الكرامه في نفسه وتعدمه الرجوله ، حين انسحبوا خجل وحين فروا من القصف وهم يتقهقرون بكي وحين وصلوا لديارهم مكسورين كسرته الهزيمه وانتحب كالنساء واختبيء منهم ومن نفسه ....
كم ليله مرت علي تلك الليالي السوداء التي عاشها شبه رجل ، يشبه الرجال شنب وعضلات وصوت خشن ، لكن الروح عاريه من رجولتها ونخوتها وهيبتها ، الروح محتله مثل سيناء بالهزيمه والمرار ومذاق الدماء الساخنه ملحا مريرا ، عاش شبه رجل ، يتمني ينتحب كالنساء ويمزق وجهه حزنا ، يتمني ينتفض غاضبا من كسر رجولته واسر روحه ، يتمني يتمرد علي كل ماعاشه ويعيشه ، لكن الهزيمه احاطته لحد قيد روح ونفسه فعجز عن الغضب والنحيب عجز عن التمرد والغضب ، كل ماقوي عليه بكاء مهزوم خجل بلا صوت بلا نفس ، قطرات تتساقط فوق شاربه الكث تبلله بالعار ، كل ماقوي عليه اخفاء دموعه عنها ، يحس وكانها تلومه بنظراتها ، يتمني لو تشاجرت معه فيفرغ فيها شحنات الغضب المكتوم والقهر ، يؤكد لها انه مازال رجلا وليس كما تظنه فقد رجولته مثل كل المنسحبين ، يبكي ويضحك ، وكيف يقنعها برجولته وهو يري نفسه ذليلا مهزوم لايشبه الرجال !!!! 
الليله طويله والجو حار والرطوبه خانقه والصمت قاتل ، مازال في حضنها يبكي ومازالت تقبض عليه لاتتركه ينفلت من بين ذراعيها ، تتمناه يشكو لها همه فتشكو له همها ، لكنه ينزوي بعيدا كالقطه تلعق جراحها المريره وحين تقترب منه ينشب مخالبه في قلبها ، تتمناه يتشاجر معها ويخرج مخزون غضبه ويصرخ فيها ويلملم بقايا نفسه ويستعيد كرامته المهدوره فوق رمال الصحراء وماكان محاربا ولا كان منسحبا ، لكنه الصمت اللعين بينهما يغزل الاشواك جدران عازله لاتنبت الا وحشه وبعد ومراره ..........
مازالت تقبض عليه في حضنها ، لن تفر ولن تهرب ، لن تنسحب ولن تبعد ، انت حبيبي ولي ، مهزوم كنت او منتصر ، قوي انت او ضعيف ، انت حيببي مهما كنت وكيف ما كنت ، روحها تصرخ في روحه تستنهضها ، عودي فاعود ، والهزيمه معا ننتصر عليها ، لكن روحه صماء تدوي في اذنها طلقات الرصاص وصوت الشظايا تمر في الاجساد المرهقه تمزقها ، روحه لاتسمع الا صوت الموت يمزق بقايا الحياه في الرجال التي حكم عليها بالهزيمه قهرا وانسحابا وغدار ، روحه لاتسمع صراخ روحها وكيف تخرج من تلافيف راسه تلك الومضات السريعه التي يراها ورجالا تجري وتموت وتشرب الدم وتاكل ذرات الرمل وهي تتعثر في طريق نجاه ذليل لم تختاره وتفر من ساحه استشهاد كريم حرمت من تزيين شواهد قبورها ، كيف تبرأه من كل الهم فيسمع روحها تناجيه عد فاعود !!! تعرف ان بوابات روحه موصده لكنها لاتكف عن الطرق عليها ، افتح لي طريق امشيه معك علنا نخرج من طريق التيه الذي فرضت علينا جبرا لانعرف ملامحه ولا كيفيه الخروج منه ، لكنه لايسمع الا صوت الخطوات الثقيله المنهكه فوق الرمال الخشنه ، انها اصوات الهزيمه الغادره !!!! 
مازالت تقبض عليه في حضنها ، ومازال الليل طويل ، والظلام دامس واصوات شباب الدفاع المدني ، تدوي في الصمت ، طفوا النور ، مازالت تقبض عليه في حضنها ، تتجرأ وتقبله ... ينتفض بين ذراعيها وكانه يتمني يمسح قبلتها الصغيرة ، لاتقبليني ولاتمارسي معي انوثة فلااملك رجوله امنحها لكي ولاتهزميني اكثر مما انا مهزوم ، لاينطق لكنها تسمع حواره الداخلي ، تتجرأ وتقبله قبله صغيره اخري علي كتفه ، ينتفض لكنه لايدفعها بعيدها وهي التي تصورته سيكسر قيده ويفر من حضنها ، ويلقيها بعيدا ويجري ، مازال يبكي ومازالت تبكي ومازال في حضنها ... سالته بصوت اخرس ، ليه البلد دي بتوجعنا كده، سمع صوتها الاخرس واجابها بصوته الصامت ، علشان بنحبها!!!
ارتعش قلبها ، مازال يذكر الحب ويتذكره ، سالته ، وانت لغايه امتي حتوجعني كده !!! ارتعش قلبه ، عمري ماقصدت اوجعك ، صوت اخرس يهمس في روحه ، عارفه لكن بتوجعني !!! هل تحركت ذراعاه لتحضنها ، تصورت هذا ، تصورت انها تحلم ، لكن ذراعيه القويتين يحيطا بها ... نبضات قلبه تندفع في شراينها قوه ودموعه تروي جروحها المفتوحه وجسديهما يلتصقا بحبات العرق ولزوجه الرطوبه وحراره الجو ورباط الخوف والوجع !!! 
ومازال الليل طويل وصفارات الانذار تعوي خلف الجدران المرتعشه المخنوقه بالورق الازرق يكتم ومضات الضوء في المدينه المهزومه وومازال الحر خانق والرطوبه قاتله ، ومازالا هو وهي عاشقين مهزومين يلتصقا بحبات العرق فوق جسديهما المنتفضين يتعذبا بالهزيمه والوجع وحب الوطن والانكسار الموحش ........... 
مازال مهزوما ومازالت موجوعه ، لكنهما اقتربا والتصقا وامتزجت روحيهما ترياقا للسم المنتشر في ارواحهما وفي سماء المدينه ...كم ليلة قضياها مثل تلك الليله ، يبكيا صامتين ويتوجعا صامتين ولايعيشا بحق .... ليال كثيرة طويلة!!! تصوراها مجرد ليله طويله في يونيو من عام الهزيمه ، وتصورا الهزيمه سترحل عن ارواحهما مهما احتلته ، فحين تتحرر الارض ستتحرر ارواحهما ، تصوراها مجرد ليله طويله من يونيو ، لكن ليال طويله كثيره بقيت مثل تلك الليله ، وكان حياتهما اعتقلت في تلك الليله من يونيو في عام الهزيمة ...
ليال طويله كثيره متلاحقه ، عاشاها اسري في يونيو من عام الهزيمه ، يطاردهما في الغفوه واليقظه ووجع الارهاق وارهاق الوجع ، يطاردهما ملامح وصراخ وعذاب وانكسار الجنود الفارين من الجبهه مخضبين بالعار ودماء الهزيمه ، يطاردهما انكسار لم يختاراه لكنهما لم يجدا غيره مرا مالحا يتجرعاه ، يطاردهما حب للوطن الذي انفرد بقيادته من تصوروا انهم وفقط يعرفوا مصلحته ويحبوه ، فهزموه وهزموا كل بشره الصامتين خوفا ورعبا واحتراما وعجزا وتركوهم يقودوا الوطن للهاوية ............... 
كم ليله قضياها مثل تلك الليله الطويلة ، ليالي كثيرة امتدت مثل شتاء القطب الشمالي بلا نهار ، من ليل لليل لليل ........نعم حلموا كثيره بالشمس وتمنو الليل ينقشع ويرحل و........لكن الاحلام بقيت بين احضانهم مهزومه مثلهم كسيره مثلهم حزينه مثلهم ............
مازالت في حضنه ترتعد ومازال في حضنها ينتفض ومازالت احلامهما مكسورة وحزينه ومازالا اسري ليله يونيو الطويله من عام الهزيمه ، مازالا يسالها انفسهما كل ليلة.............. هل ستشرق الشمس غدا !!! هل ستشرق الشمس غدا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

اسفار اميرة بهي الدين !!!


مقدمة ... للكتب الثلاث
"مدونات اميرة بهي الدين"

بقلم ايهاب سمرة
الكاتب والمدون
مدونة فارس قديم






اسفار سيدة مصرية ….. كتب ايهاب سمرة وقال ….

أميره بهى الدين , الأستاذه كما نلقبها .. تقرأ الأرواح هذا أولا .. ثانيا تترك أرواح البشر تتحرك بحريه أمامها و ترصد مساراتهم , ثالثا „ تكتب ما تراه بمداد قلبها المصرى الصميم .. فتأتى كتاباتها ببراءة حكاوى الأطفال و عمق مواعظ الأجداد .. خليط عجائبى تمزجه تلك السيده فى أوراقها .. المهم .. تشرفت من قبل بتقديم كتابين من كتبها فى العام الماضى , و فى هذا العام .. تنشر الكاتبه ثلاثة كتب .. و تشرفت بكتابة مقدمه عامه للكتب الثلاثه و مقدمه خاصه للكتاب الثالث , كتبها هى بالترتيب
سيده تتأرجح على كرسى هزاز بانتظار فارس لم يات
و .. فتاه صغيره تكلم الأشباح
و أخيرا .. أبو الجواز و ايامه السودا
فيما يلى أنشر ما كتبته من تقديم لأعمال الأستاذه .. مستمتعا باجترار ما قرأته و داعيا الأحباب لمشاركتى فى تلك الرحله التى تصحبنا فيها الكاتبه بين أرواح تمثل فى مجموعها مجتمعنا المصرى.................

فى تلك الثلاثيه المركبه ( ثلاثة كتب يحوى كل منها ثلاثة اقسام ) يلمح القارىء المتابع لكتابات المؤلفه نضوجا ملحوظا فى أساليب التعبير و السرد , مع بقاء سمات شخصية الكاتبه العميقة الجذور واضحه فى فكرها تماما , و قد شرفت سابقا بتقديم كتابين للمؤلفه و ارانى اكرر هنا ذات منهج التقديم السابق حيث لا ارى بدا من اتباعه , و اشرع هنا فى تقديم ترجمه مختصره للمؤلفه نفسها أولا للتعرف على اتجاهاتها و خلفيات شخصيتها قبل الولوج الى فكرها المسرود بين ايدينا الآن.
المؤلفه هى سيده مصريه بكل ما فى الكلمه من معنى , أم و ربة أسره, تعمل بالمحاماه و ناشطه فى العمل العام , و ايضا تنتمى بالميلاد لشريحه اجتماعيه خاصه , كل تلك الظروف كانت لتؤدى فى النهايه لسيده عاديه جدا ممن نقابلهن فى حياتنا اليوميه بدون أدنى اندهاش , لكن طبيعة المؤلفه و رحلة حياتها جعلت منها شخصيه خاصه بشكل مدهش , فعملها بالمحاماه و نشاطها العام جعلها تقترب بعمق مما يدور فى قاع المجتمع و أغواره من صراعات , بينما وضعها الأجتماعى جعلها تعايش بالفعل قمة السلم الأجتماعى و صراعاته أيضا , و بين القمة و القاع لعب اندهاشها و فضولها الطفولى الدائم دورا بالغ الأهميه فى قراءتها الشديدة التأمل و التطلع لمسارات الأحداث و طبائع الأرواح , فاتساع مساحة تحرك الكاتبه بين شرائح المجتمع المتباينه و غوصها فى صراعاته مكناها معا من نسج شبكه غزيره من الحقائق والأفكار و المشاعر الأنسانيه تمثل أساسا صلبا لتشييد بنائها القصصى بعد ذلك .
و بالخلط بين اندهاشها و فضولهاو رحلة حياتها و بين موهبتها الأصيله فى الأبداع الأدبى .. جائت كتاباتها فى صوره أظنها فريده فى الأدب العربى عامه و الأدب النسائى خاصه , المؤلفه تتسلل بوداعه لأدراك قارئها فى بداية الأمر .. كطفله تجالس قارىء ناضج و تبدأ فى بث حواراتها البسيطه أولا , بالتدريج و بذات الوداعه الطفوليه تجتذب أدراك القارىء المصاحب لها فى رحلاتها السرديه ألى مسارات عجيبه غريبه , تمد أناملها بهدوء لتقبض على يد القارىء و تصحبه دون جهد يذكر ألى مساحات جديده .. كون موازى لما نعرفه , عالم من صنعها هى .. مفرداته مصاغه من مفرداتنا العاديه لكن بترتيب خاص يجعل من سردها طلاسم لا تنفك ألا بالتدبر فى التكوين كله , ينجذب القارىء لبراعة الصوره الثلاثية الأبعاد التى تصيغها الكاتبه و يشارك الطفله فى اندهاشها البرىء , ويمضى السرد دون ان يكتشف القارىء أنه تم استدراجه لمساحات تفكير و أحساس موازيه لحياته اليوميه و قناعاته الطبيعيه رغم غرابة التكوين و كثافة التساؤلات , ولا ينتهى السرد ألا و يكون سؤال القارىء قد أجيب .. بمزيد من ألأسئله !
هذا ما كان من ترجمتى لشخصية الكاتبه و تكوينها الأصلى على حد علمى , أما عن خطها العام فى الأبداع – الذي سينشر في كتبها الثلاث مدونات اميرة بهي الدين - فيأتى محملا بتراث أخلاقى و عقائدى ثرى , و معاناه واعيه لمعضلات الحياه الواقعيه ( رغم خيالية السرد فى أغلب الأحوال ) فأول ما يلاحظ من محاور الأداء عند الكاتبه هو تركيبة القيم الأنسانيه التى تعالجها فى نصوصها , الوحده و التوحد الأنسانى كمعاناه مؤلمه للأغلب الأعم من البشر فى عصرنا الحالى , تعالج الوحده بالشكوى العميقه تاره و بالأمل فى المشاركه تارات , تصف الوجع بدقه و تصف الحلول بطموح , الأحساس بألم الوحده يفرض نفسه جليا فى كثير من النصوص التاليه .
التمرد أيضا قيمه واضحه بألحاح فى كثير من النصوص , تمرد يظهر فى بعض أشخاصها عيانا و يكون مكتوما لدى شخصيات أخرى , لكنه تمرد يرسم فى النهايه مسار الشخصيه و قدرها , تمرد يتراوح بين الحماقه و الحل المنطقى , لكنه فى النهايه تمرد ثمين القيمه كما تشعر به الكاتبه و تنقل شعورها للقارىء.
الألم النبيل عنصر دائم فى خلفية الصور الثلاثية الأبعاد التى ترسمها الكاتبه , تكاد لا تخلو قصه منه , ألم راقى مكتوم بكبرياء فى اغلب الأحوال , لكنه واضح و مؤثر , ألم من النوع الفاعل فى سياق القصه رغم اختفاؤه ببراعه , و أظن احترام الألم فى تلك النصوص يعكس نزعة تصوف واضحه فى فكر الكاتبه كما سيلى ايضاحه.
طاقة الحلم تبدو و كأنها عصب الكتابات كلها أو أغلبها , قد يظهر الحلم فى تأملات اليقظه أو فعلا فى رؤى السبات لا يهم , لكنه يظهر مصحوبا بطاقه مؤثره كأن للأحلام اراده مستقله تتصرف على أساسها , طاقة الآحلام أو أرادتها تبدو غامضه فى منبتها واضحه فى تأثيرها فى أقدار الشخصيات , أظنها لمحه أخرى من الطلاسم الوصفيه التى امتلأت بها نصوص الكاتبه البارعه فى التعامل مع أرواح البشر .
طاقة الحياه هى تداعى لطاقة الأحلام المشار أليها , تظهر حين تظهر كحالة شروق يلاحق غيم كثيف , تحكى و تسرد أحداثا تبدو عجابا لكنها تحت شمس طاقة الحياه تبدو مبرره و منطقيه وواقعيه , تأثير الأحلام التى تحكيها الكاتبه بقناعه تصل ألى الأيمان بالأحلام يجعل من بعض المعجزات الصغيره جزء من الحياه الويميه لشخصيات النصوص .
أما عن ادوات الكاتبه الخاصه فى التعبير , قد أختصرها أجمالا فى اللغه و الأيقاع , لكن قبل المضى قدما فى توضيح الفكره أنقل تصورى الشخصى لطريقة عمل الكاتبه و استخدامها للأدوات , حين فكرت فى الموضوع و حاولت الوصول لتصور لكيفية أداء الكاتبه , لم يخرج تصورى للأمر عن تخيل طفله بالغة الدهشه و الفضول و النشاط و احيانا العناد , تجلس فى مساحة مملوئه بألوان من كل الأنواع , صلصال, لعب قديمه و قصص عن شخصيات خياليه من تلك التى تشكل عالم الأطفال البرىء الأول , ثم رأيتها تمزج عل العناصر .. ألوان و أوراق و صلصال و بقايا لعب , و تنسج منها كيانات ثلاثية الأبعاد و تصفها معا فى فراغها العابث , لتنسج فى النهايه تعبير بالغ القوه عن رؤيتها المندهشه بعمق للصراعات و الحكاوى بكل ما فيها .. تستخدم مفرداتها الخاصه جدا جدا , لا عجب أن لكل طفل رؤيته الخاصه الواضحه جدا للأشكال , فالطفل لم يتلوث أدراكه بعد بآراء الآخرين من الكبار المتأثرين بموائمات الواقع و تنازلاته و حساباته .. ترسم الطفله أبطالها و مساراتهم , ترصد الخير و الشر و الفرح و الألم ببرائه مدهشه و رؤيه متفرده تماما .. و العجيب أن تلك التكوينات الطفوليه تأتى واضحه و بالغة التأثير فى الناضجين القادمين لمشاهدة نتاج عبث الطفله المستغرقه فى أبداعها بأدواتها الخاصه , مبهره تلك الطفله العنيده المتشبثه بطاقة الحياه و الأمل و الأحلام , المتمثله بأبطال الخيال و أرباب الأساطير العتيقه التى نسيها الكبار فى غمرة تعقيدات حياتهم اليوميه .. و ارانى أتسائل كيف احتفظت الكاتبه بطفولتها حتى الان؟؟؟
أعود لأدوات الكاتبه التى اشرت أليها من قبل .. أى اللغه و الأيقاع , لغة الكاتبه وحدها تنتمى للغه العربيه المصريه الحديثه , فالنصوص أصلا باللغه الفصحى , لكن ببساطة سرد و عمق أحساس ينقل مساحة أدراك اللغه الى اللهجه العاميه المصريه , كأن القارىء يرى الفصحى بعينيه لكنها تصل ألى قلبه بالعاميه السلسه المؤثره , هذا عن المفردات .. أما عن التراكيب البلاغيه , فالكاتبه تمارس عبثها الأبداعى هنا لأقصى حد , فتتلسطم الكثير من الجمل بأسلوب الرموز الصوفيه الذى يقرأ ككل مره ثم يعاد قرائته مجزءا مره أخرى لنتمكن من فهم الرساله , أو .. نستبدل بصرنا ببصيرتنا عند القراءه .. فندرك الباطن المدفون خلف الظاهر , اللغه مصريه جدا جدا .. قمت بتجربه ( عبثيه أيضا ) حين اقتطعت جزئين من حوارات الشخصيات فى قصتين منفصلتين ( حفلة تمام البدر و حفلة البكاء ) و جربت أولا ترجمة الحوارين ألى اللغه الأنجليزيه التى أجيدها .. النتيجه كانت .. فشل ذريع .. اتصلت بصديق مترجم محترف و أمليته النصين و طلبت منه ترجمتهما .. صرف وقتا غير قليل ثم عاود الأتصال قائلا بالحرف الواحد : "ترجمهملى بالعربى الأول و بعدين ابعتهملى أترجمهم انجليزى .." !!
نصوص الكاتبه عميقة المصريه رغم استخدامها للفصحى كعصب , لكن حضارة العاميه المصريه تصبغ كتاباتها بصبغه فريده , تقرأ كأنك تستمع لتلك الحكاوى العتيقه التى سمعناها أطفالا من الجدات و العمات الأسطوريات فى الماضى السعيد , تراكيب لغويه مليئه برموز أسطوريه صوفية السمات فى أغلبها , كأنها مقتبسه من أناشيد المديح أو الأساطير المنشده فى موالد عميقة المصريه .
موسيقى اللغه و مفرداتها تكتمل بأيقاع السرد , و هنا أظن تمكن الكاتبه من مفرداتها اللغويه الخاصه مكنها من وضع أيقاعات متباينة السرعه لنصوصها , أيقاع السرد رغم خفاؤه لكنه مؤثر لدرجه بالغه فى بناء النصوص .. يأتى الأيقاع لاهثا احيانا , لاهثا حتى الصدمه , و يتباطأ أحيانا أخرى حتى يقترب من السكون , أيقاع السرد أظنه من المفردات المنفرده للكاتبه و لا أجد تفسيرا أو شرحا أكثر مما قلت عنه حتى الآن , قد يكون لنقاد المتخصصين رأى أكثر تفصيلا منى فى هذا الصدد .
أما عن تقسيم ثلاثيتها ألى أقسام ثلاثه , تبدأ بحواديت تبدو واقعيه, ثم حواديت العشق و الألم و تنتهى بقسم حواديت زادها الخيال , فأتوقف هنا عائدا لفكرة عمق الثقافه الصوفيه للكاتبه , لا أقول أنها متعمقه فى التصوف أو حتى متصوفه , اطلاقا .. لكن بنائها الشخصى و تكوينها الحضارى صبغها بتلك الصبغه المصريه جدا حيث تمزج عقائدها بين توحيد صرف فى الأعتقاد و تصوف مبالغ فيه فى الطقوس , هكذا جاء فكر المؤلفه و بذات المنهج قامت بتقسيم ثلاثيتها ألى كتب ثلاثه كل منهم فيه ثلاثة اسفار متكررة المنهج , فى سفر الحواديت التى تبدو واقعيه تنسحب الكاتبه جزئيا لتحكى وقائع أظنها عايشتها فى الأغلب , صحيح سردتها برؤيتها و قرائتها لروح الشخصيات بطريقتها الطفوليه الفضوليه , لكنها كفت يدها هنا عن رسم مسارات النصوص و مقدرات الشخصيات فى هذه الأسفار الواقعيه , أكتفت فقط بالحكى بمفرداتها و أيقاعها , فلم تظهر عبثيتها فى السرد أو السياق .. فجائت النصوص (كما تظن الكاتبه ) قريبه من الواقعيه .
أما فى أسفار العشق و الألم فالكاتبه شرعت هنا فى سكب مشاعرها على مشاهدات فعليه تأملتها بطفولتها الواسعة الخيال , مجرد مشاهدات أظنها قصيره فى الأصل الحقيقى , لكن الكاتبه نهلت من محيط خيالها الفسيح و خلقت بألوانها و صلصالها و بقايا لعبها الطفوليه تكوينا ثلاثى الأبعاد لرؤيتها الخاصه لحالات العشق و الألم , قيم الكاتبه فى هذه الاسفار تظهر بجلاء , الوحده و معناتها و معالجتها , من افتقاد الشريك ألى حضور الوليف ,شكوى الهجر ووصف الوصال , أيضا قيمة التمرد و عناد الاعتياد أو اعتياد العناد أيهما أقرب , قيمة الأحلام و ارادة الأمل , و أيضا طاقة الحياه الخلاقه بتحديها لكل عناصر الموت و السكون ...
فى أسفار العشق و الألم نسيج خلاق مبنى على مشاهدات تمت بعيون .. طفله فضوليه واسعة الخيال .
أما فى سفر الحواديت التى زادها الخيال , فالكاتبه هنا أطلقت العنان تماما لممارسات أرباب الأغريق العابثه , تلاعبت بكل الأشياء و عبثت بكل العناصر .. عكست مسارات الطبيعه و أعادتها ترات , بثت الروح فى كائنات و كيانات فى الأساس لا روح فيها , حاورت ما لا يمكن حواره فى الحقيقه و منحت أرادات مستقله لما هو فى الأصل .. جماد , طلسمت التعبيرات و التكوينات و خلطت بين اللغه و البناء , فى هذه الأسفار مارست الكاتبه أبداعها و تصوفها و عبثيتها بل أكاد أجزم انها حتى لم تحاول قيادة مسار السرد فى أى وقت , بل تركت القصه تسرد نفسها بحريه و فوضويه بالغه , و اكتفت الكاتبه هنا بسرد رؤاها الخياليه كأنها اكتفت بدور المصور الذى ينقل الأداء و تخلت عن دور المخرج الذى ينظم الأداء .. أبداع و خلق خيالى موازى للواقع الصلب , طلسمات و رموز تبدأ من اول سطر لكن بلغه شديدة البساطه , حكايات بأسلوب السهل الممتنع , تثير سؤالا لتجيب عليه .. بمزيد من التساؤلات , لا عجب أن أغلب البطولات الذكوريه فى نصوص الكاتبه حملت ( رمزا ) أسم .. يوسف .. فيوسف فى الأدبيات السماويه هو الشخصيه التى رسمت الرؤى قدره تماما , منذ رؤيته للشمس و القمر و الكواكب , و حتى تفسيره لرؤية الفرعون , قد ألمح هنا رمزا آخر لا أتهم به الكاتبه و هو تشابها فى المنهج بين تقسيم اسفار الكاتبه و أسفار الأنجيل .. حيث تنتهى الكاتبه بالمطلسم الغامض بما يحمله من نبؤات و رؤى خياليه , وينتهى الأنجيل بسفر الرؤيا .. المطلسم ايضا.
الكاتبه ربة قلم ولا غرو , تمارس أبداعها الخلاق كالأرباب الأغريق , عبثيه فى الخلق و تحديد المسارات , كوميديا سوداء تطل بين الحين و الآخر , و قدريه بالغه تحكم مسارات الشخصيات و مصائرهم , تختلط العبثيه الأغريقيه بنزعة تصوف عميقه جدا يتعطل عندها البصر و تعمل عنه البصيره , الأحلام فى سرد المؤلفه تتمتع بقوه حقيقيه و اراده مؤثره , الأساطير و الرموز هى مفردات الأحداث .. و تمارس الكاتبه عبثيتها الطفوليه برشاقه عجيبه أظنها أهم ما يميز كتاباتها , فتتلاعب بالمفردات المعهوده لتشق بها طرق لم يتطرق لها أحد من قبل , تتلاعب بعناصر الطبيعه ذاتها فى بعض الاحيان و بوداعه بريئه تخدع القارىء فلا ينتبه لعبثها ألا فى نهاية السرد .. ليكتشف أنه كان فى رحله خياليه تماما و أن بدت له فى وقتها شديدة الواقعيه أو.. العكس ...
لكن فى كل الأحوال فصحبة الكاتبه فى رحلتها السرديه ستنتهى حتما بثراء فى الفكر , واستفزاز للروح و شحذ للأدراك لم يكن عليهم القارىء قبل أن يشرع فى القراءه ..

الأربعاء، 23 فبراير 2011

مقدمه كتاب ... ابو الجواز وايامه السودا


مقدمة كتاب

ابو الجواز وايامه السودا

بقلم الكاتب والمدون ايهاب سمرة

مدونة فارس قديم


رغم المسمى الذى يبدو ساخرا للكتاب ألا أنه فى تفاصيل أفكاره ورسالته , أراه بعيدا تماما عن أى سخريه , العصب الرئيسى للنصوص التى يحويها الكتاب هو الأرتباط بين الرجل و المرأه هذا صحيح , لكنه يتعامل مع هذا الأرتباط كنقطة ارتكاز لا كمحور حركه , فتاره يكون الزواج بوضوح شديد هو لب المعضله الدراميه ( و أحيانا الكوميديه ) و تارات أخرى يكون الزواج هو الخلفيه التى تنبنى أمامها الشخصيات و تتداعى بعدها الأحداث , و بحقيقة أن الأسره هى المكون الرئيسى للمجتمع البشرى و سبب تكوينه , و أعالة الأسره هى الكون الرئيسى ايضا لكل المعضلات الاقتصاديه و الأجتماعيه , فطبيعى أن تنسب مشكلات المجتمع البشرى كلها ألى مشروع الزواج أو ينسب أليها , فكما طرحت الكاتبه معضلات كالوحده و الأرتباط و الخيانه و غيرهم من الموضوعات المرتبطه مباشرة بالزواج .. طرحت أيضا مشكلات كالفقر و القهر و الخلل الطبقى و رتبتهم أيضا بحيث ربطت طرحها .. بالزواج .

و باستخدام مفرداتها الفريده , تصحبنا الكاتبه فى رحله مع الكتاب بذات منهج تقسيمه ألى اسفار مقصودة الأسم و التنوع , ففى قسمه الأول حواديت تبدو واقعيه كما قلت تمارس الكاتبه سردا لمشاهداتها و ملاحظات حدثت بالفعل فى أغلبها ولا تستخدم من طاقاتها الأبداعيه سوى مفردات الحكى الخاصه بها المتمثله فى اللغه و الأيقاع , و طبعا رؤيتها المصبوغه بقيمها الأنسانيه التى تخلص لها بعمق بدءا من التمرد و العناد , مرورا بالألم النبيل و طاقة الحلم و انتهاء بطاقة الحياه الخلاقه , ففى القصه المستمد منها العنوان نرى مجرد سرد لحدث واقعى يتكرر بالتعداد الطبيعى للأحتمالات , الزوج الأرمل بعد زيجه تقليديه حتى الملل يقابل العانس المستغرقه فى رتابة حياتها حتى الملل أيضا و يمثلا معا طوقى نجاه لبعضهما دون أدنى محاوله للخروج عن المتوقع المألوف , فتستمر حياتهما الجديده على ذات النهج القديم بتقليديه حتى الملل ليكتشفا فى النهايه انغماسهما فى لعبة أبو الجواز و سنينه ...

النص التالى أما ليله يا سلام , رصد اجتماعى للصدمه الحضاريه بطريقه معكوسه , فصدمة الحضاره غالبا تنتاب المنتمى لطبقه دنيا حين يتصادف وجوده بين أهل الطبقه العليا و و فى النص تثبت الكاتبه أيضا انها تنتاب أهل الطبقه العليا حين ينخرطون ( قدريا ) بالطبقات المطحونه , فى مناظره شيقه بين أدبيات الطبقتين و اخلاقياتهما .. مناظره تصل ألى مستوى المبارزه الأجتماعيه بين القيم , بدئا من المعتاد الموقر و حتى المروث المقدس , فمجرد وجهة نظر البطله الراقيه الطبقه للقبور و قدسيتها مقابل تعامل الخادمه مع المقابر باعتبارها مساكن ينسحب عليها كل ما ينسحب على المسكن من مواصفات و صفات , حتى نظرة الطبقتين للمتعه و التسليه و الفرح , ففى حين تعتنق البطله الراقية الطبقه فكرة تجريم تعاطى الحشيش , تراه الخادمه واجب لا بد من تقديمه كالعشاء , و أيضا نرى حدث الزواج هو الخلفيه المبنى عليها الأحداث , و طقوسه هى ميدان تلك المبارزه الفاضحه لتباين الطبقات .

و فى أثبات لعدم تحيزها لنسوية الموضوعات , تسرد الكاتبه فى نصها ينتظر انتصارا مدويا بدقه مشاعر روح ظمأى .. لرجل .. سرد جدلى بعمق , يفند مبررات العبث منطقيا حتى يكاد القارىء يستجيب لحتمية السلوك المشين للبطل , و فى ذات السرد .. نرى الرموز التى تشين ذات السلوك و ايضا بمنطقيه معقوله , يحار القارىء أيتعاطف مع تلك الروح المعذبه بالظمأ ؟ أم يغضب لسلوك هذا العابث ؟

مشاكل الميراث و لاسيما الثروات العقاريه فى مصر و دور أعادة توزيعها ( عدلا أو ظلما ) و بحتمية الزواج كحدث رئيسى ينشأ عنه التوالد و من ثم التوارث , و برؤيه شديدة الاقتراب لهذا النوع من المشاكل ( بحكم عمل الكاتبه و مهنتها ) تمزج الكاتبه بين مشاعر أنسانيه راقيه و بين العوار الأقتصادى المصرى برشاقه يحسدها عليها المراقبين الأقتصاديين فى كلا من "روح غاضبه و حزينه "و أيضا فى "الأخ الأكبر و أخواته البنات " , تستعرض الكاتبه فى النصين التداخل العجيب لا بين مشاعر البشر و عواطفهم و حالات العجز و الندره الأقتصاديه فقط , لكن أيضا بالموروث الأجتماعى التقليدى و صراعه من جرأة الأجيال القادمه .. أو لعلها ليست فقط جرأه .. بل هى استجابه للضغوط الأقتصاديه !! .. جدليات تبدو كل أطرافها منطقيه و عادلة المطالب من جهه و من جهه أخرى لا يمكن تجاهل الظلم الواقع على الشخصيات .. أظن فى النصين تطرح الكاتبه تساؤل من العيار الثقيل , كألقاء صخره بعنف فى بركة القوانين و الأعراف الجائره التى تسود المجتمع حاليا و تنبه لرد فعل البشر للضغوط الأقتصاديه كأنها تستصرخنا أنه لا مجال الآن لرفاهية التعامل مع الحقوق بتابوهات الأعراف.

فى نصين آخرين هما " ياسلام لو يلغو يوم الجمعه " و" فى وقت الراحه " , بجلاء و بعنف تناقش الكاتبه قضية عمالة الأطفال , ترصد البؤس بحساسيه و أدراك فائقين , تتابع مشاعر البطلين فى القصتين بعمق بالغ , تطارد أحلامهما و مخاوفهما و ترسم مسار لسلوكهما أيضا , و لا تنسى أن ترسم سلوكيات الطبقه المستغله لبؤس البطلين , و تقارع بمكر بين أدبيات الطبقتين لو قرأنا النصين على التوالى , و فى النصين تترك النهايات مفتوحه لكنها نهايات محمله بطاقة العناد و التمرد و الأحلام .. و الحياه ذاتها .

فى السفر الثانى من الكتاب حواديت العشق و الألم , تطلق الكاتبه بعضا من قدراتها الأبداعيه و تسكبها على النصوص , تمزج وقائع و مشاهدات مرصوده ببصيره قبل البصر برؤيه و حس اجتماعى بعيد التأثير , تلقى بالشكوى على لسان حال الشاكى , و ترد بالمنطق على لسان حال المشكو منه .. مازالت الكاتبه فى جدليتها الأجتماعيه كأنها تنقل دهشتها و فضولها الطفوليين للقارىء بعد مزج المفردات بألوانها الخاصه و تركيباتها المتفرده لتكون القضيه المطروحه للجدل تكوين ثلاثى الأبعاد يستدر أدراك كل أحاسيس القارىء و يستفزها فعلا , من الواضح أن النصوص فى أغلبها تعود لحوادث و صراعات واقعيه جدا , لكن الكاتبه تدخلت لتصبغها بروحها و رؤيتها فى تفسير و شرح يباغت القارىء بمنطقيته و عمقه .

فى " ضحكات ساخره " تحكى الكاتبه عن صراع مشاعر الزوجه الثانيه , وقد تختصر الوضع الذى تراه مختلا بجمله تنطقها بطلة القصه الزوجه الثانيه حين تصف نفسها بأنها (تمنح الرجل بعض التوابل و البهارات على طبقه الذى تفننت زوجته الأولى فى أعداده ) و تستمر البطله فى سرد مشاعرها التى تحيرها و تحير القارىء أيضا فلا يدرى أيتعاطف معها أم يجرم فعلها .. حيره و دهشه تتخلص منها الكاتبه و تلقيها على عقل القارىء .. سؤال تجيبه باسئله .. استفزاز مندهش لكل وسائل التقييم و التحكيم لدينا .. و لا أظن هناك أجابه ملقه أبدا لتلك المعضله .. فى النهايه تصبغ كلمات البطله برومانسيه حين تبحث عن كروان يغنى لها فلا تجد سوى غربان و خفافيش فى سماء حياتها .

تتكرر تيمة الزوجه الثانيه و صراع بيتين فى " طلاق بالتلاته ", و هنا تجرؤ الكاتبه على تحميل مسؤلية الظلم و البؤس بوضوح لنموذج الذكر الأنانى الطامع فى جمع كافة المتع فى كيانه وحده , غير عابىء بمبدأ العدل أوالأخلاص أو الوفاء أو حتى الرحمه , متلاعبا بنصوص شرعيه لصالح نفسه مهملا نصوص أخرى , طبعا لا يخلو النص من رموز لألقاء اللوم على كل الأطراف المشتركه كل حسب تقصيره فى مسار حياته و لكن ايضا بطرح جدلى يثير من الأسئله أكثر ما يثير من اجابات , هو طبع الكاتبه المندهشه بطفوله .. أرهاق القارىء و استفزاز أدراكه ألأى أقصى حد .

فى نصين آخرين و بجرأه بالغه هما "ربنا يكفينا الشر" و " مجرد تفاحه فاسده " تفضح الكاتبه بغضب مصبوب الممارسات الشيزوفرينيه للمجتمع , تعرى عوار اجتماعى تمثل فى التمسك بالمظاهر و خيانة المبدأ فى الخفاء ..جريمة استحلال القيم و انكار المشاعر الأنسانيه تحت مسميات مزيفه تخفى خسة أرواح ووضاعة نفوس شخصيات النصين .. كشف غاضب هو , فاضح .. يلمس قاع النفوس الخسيسه التى تتشدق بالفضيله و الرحمه ولا تتورع عن سحق الأنسانيه مادام أحدا لا يراها , الرموز و الأشارات حاضره كالعاده , لكن مصبوغه بالغضب الشديد .

فى قصتى" الأسر فى الأزرق " و "الجواز حاجه و الحب حاجه ", و بطفوله مندهشه جدا تكشف الكاتبه قضيه أظنها مسكوت عنها منذ زمن سحيق , قضيه تنسف مجرد محاولات التواصل الأنسانى فى مجتمعنا المقيد بالأساطير و المغطى بالأزدواجيه , قضية مدخل العلاقات بين الرجال و النساء و وجهة نظر الطرفين فى طبيعة العلاقه , فترصد الحمقى الذين يعتبرون العلاقه ( قبل بدايتها ) صراعا لا بد أن ينتهى بمنتصر و مهزوم , بفضول ترصد الكاتبه أرواح مصابه بالسعار العاطفى , أرواح تبحث عن خصم لا عن وليف .. و تكابد الصراع بدلا من الأستمتاع بالمشاركه .. أرواح ضلت طريقها فى التواصل لأنها ببساطه أرواح لم تحمل رسالة سلام أو سعاده للطرف الآخر .. ارواح أنانيه ذاتية التفكير لا ترى فى الوجود غير احتياجاتها فقط , ترصد الكاتبه بأبطال القصتين حالة عناد غبى يبدأ به طرفى القصه ارتباطهم و يستمرو فيه ولا يتوقف أي الأطراف ألا عند خطأ الأخر متصيدا لائما و غاضبا .. حتى يتحول الهدف من العلاقه ألى رغبه فى الأنتقام لا فى التعايش , طبعا ينتهو بما يليق بمن دخل علاقه بمبدأ الغالب و المغلوب , و طبعا لا تنسى الكاتبه أن ترسل رسالتها الباطنيه للقارىء لتحذر من حماقة الأمتناع عن المخاطره .. و الركون لأمان ممل بدلا من أطلاق طاقة الحياه و التمرد على الموروث المعهود .

فى "القلم الألف" و "أهلا يا وحش" ومضات قصيره تفضح هشاشة بعض العلاقات التى تندرج اجتماعيا تحت مسمى الزواج و أنشاء الأسره , سطحية فهم البعض لقيمة الأرتباط و رهانهم الخاسر فى كثير من الأوقات على التمسك بشكل ظاهر العلاقه دون التمعن فى عمق وجود العلاقه من أساسها .

أظن نجم القسم الثانى من الكتاب هو قصة " ثلاث تفاحات ", صراع طويل مبنى فى كل أطرافه على .. أوهام .. فمن عدو وهمى صارعته بطلة القصه ألى عشق و همى مارسه البطل , حالة سعار عاطفى أيضا مصاب بها البطلين الرئيسيين للقصه , مجرد بحث عن عداوات و منافسات و حالة تناحر دائم .. تذكرنى القصه بمقولة أحد السياسيين العرب فى السبعينيات حين قال نحن مجتمعات تتناحر ولا تتحاور .. بالفعل .. لم يدر حوار واحد فعال و صادق فى مسار القصه كلها .. التواصل كله كان تناحرا .. و حتى المحاوله الوحيده للحوارقام بها من لم يفكر سوى فى نفسه فقط , و افترض واهما أن الطرف الآخر سيحب ما يحبه بدون نقاش .. الرمز فى تلك القصه ابعد بكثير من مجرد حكاية زوجين فاشلين فى تحقيق السعاده .. هى حكاية مجتمع يتناحر ولا يتحاور .. و كأن الكاتبه تنبه المجتمع لخطورة سكوت الناس عن التعبير عن مشاعرهم بوضوح و صراحه .

السفر الثالث من الكتاب حواديت زادها الخيال , و كما هو ديدنها و منهجها , تطلق العنان لكامل قدراتها الأبداعيه فى خلق الشخصيات و العناصر المكونه للنص , تمارس العبثيه كأجرأ ما يكون و بأمعان فى الرموز المدفونه بذكاء يجبر القارىء على التدبر فى النص كثيرا ..

فى "النظره الكسيره" تطارد الكاتبه سلسلة القهر المتراكم , و البؤس الموروث , و تتمرد على الأختيارات التى بدت منطقيه فى وقتها لتنتصر للبصيره و الحلم الخارج عن كل منطق , تنتصر طاقة الحياه فى نهاية رحله مليئه بالرموز , فبين فانوس و ثريا (لغويا الثريا أكثر أضائه من الفانوس ) ينتصر الحلم للفانوس حين انتصر المنطق للثريا , و بين مسمى سعاده و مسمى سميحة (شخصيتين أنثويتين فى القصه ) نكتشف فى النهايه أن السعاده لم يمكن تحقيقها فى وقت ما لكن بالأنصاف و قبول التوبه بالسماح تحققت السعاده بالفعل لا أدرى أهى رؤيتى وحدى أم ستكون رؤية القراء .. لكنى ألمح تطبيقا واقعيا جدا لمقولة المسيح عليه السلام : من كان منكم بلا خطيئه فليرجمها بحجر .. و نرى أن من نظر لنفسه و تسامح بخطيئته عن خطيئة غيره .. نال السماح و السعاده و التوبه , طبعا لا تنسى الكاتبه لأن ترمز بأسم يوسف للرؤيا و المستقبل و الأمل .

فى حوار ممتع بين راويه التى تروى القصص و رجب الذى يرسم الوجوه المتعبه , تدور قصة "غرباء فى محطات الرتابه ", لتنتصر الكاتبه مره أخرى للتمرد و طاقة الحياه , بعد مطارده طويله مرهقه للحياه فى صورتها المعهوده , فمجرد الخروج عن المعهود كان هو الشفاء و الطريق .. العجيب أن العلاقه التى حققت الحل لأبطال القصه هى ذاتها .. غير معهوده أطلاقا .. تمرد و عناد و مطاردة الحلم بطاقة الحياه .

الخيال العبثى يتجلى فى " سأظل أحبك للأبد"و "وقفت منى على الكورنيش ".. بين رساله وصلت بعد ثلاثة عقود من رحيل كاتبها، ألىى شخصيه فى قصه قررت ببساطه الهروب من دورها المرسوم و البحث عن دور آخر .. عبثيه تثرى الفكر حقا فى القصتين , و طبعا الرموز تنهمر على القارىء طوال الرحله ..

طاقة الحلم و أرادته المستقله تتحول ألى عنصر فاعل فى حياة شخصيات قصة ثلاثة أحلام فى ليله واحده , الكاتبه تجعل للأحلام القدره الكامله على توجيه مصائر البشر و الأحداث , تجعل من الأحلام ساحة صراع حقيقيه , بل يكون الحسم الحقيقى و التقرير المصيرى هو حدث يقع .. فى الأحلام, و على الواقع أن يستجيب صاغرا لما قررته .. الأحلام , ألم نقل عبثيه و ابداع فى المقدمه؟

وصف شديد العمق و العبثيه لحالة الموت من زاويه غير معهوده أطلاقا .. زاوية المحتضر نفسه , و رد بصوره تجعل الموت هو مجرد رحيل الى ..الحياه فى النص المسمى بالرحيل للحياه , تمرد الكاتبه على زوايا الرؤيه ذاتها جزء من استكشافاتها الطفوليه التى ذكرناها من قبل.

الرموز لم تنقطع فى السفر ألأخير من الكتاب , الرسائل المدفونه لا تنتهى مع كل أعادة قراءه للنصوص , اظن فى هذا الكتاب و رغم سخرية العنوان , وصلت الكاتبه لنضوج متفوق فى رصد المجتمع .. برؤيه خاصه جدا و تركيب قيمى راقى .. و طبعا صوفيه عبثيه يلهث معها القارىء مطاردا المضمون العميق للكتاب كله , طفله مدهوشه تأخذ بيد القارىء فى مسارات غير مطروقه .. الكاتبه تسأل .. و حين تكاد الأجابه تبدو فى الأفق .. تلاحق القارىء بمزيد من الأسئله .. طفله مندهشه فضوليه .. لكنها فى الحقيقه .. مدهشه و مبدعه ... الرحله مع الكتاب ستترك جدليات يتداولها القارىء طويلا .. و أسئله سترهق ذهن من يتدبرها .. لكنها مؤكد .. ستأخذه ألى أفق أبعد بكثير من مجرد واقع اجتماعى .


مقدمة كتاب ... سيدة تتارجح علي كرسي هزاز تنتظر فارس لم يأت


مقدمة كتاب

سيدة تتأرجح علي كرسي هزاز تنتظر فارس لم يأت

بقلم الكاتبة والمدونة بثينة محمود

" مدونة طيارة ورق "


هل لي أن أتحدث عن أميرة !!

من أصعب الأشياء على الإطلاق أن تكتب مُحايداً عمّن تحب !!

ولكن مهلاً.. لماذا يتحتم عليّ التزام الحياد؟ أنا أحب هذه الصديقة الحميمة.. هذه الكاتبة والقاصة والمحامية والمدوِنة.. و.. لا أعلم باقي ألقابها الرسمية ولكن ما أعلمه هو كونها "طاقة نور"..

نعم.. هذا هو التعبير الذي يسكن رأسي كلما قرأتها أو تواصلت معها ، إنها نور ينتشر حول كل من تلمسه وما تلمسه فيُضاء بالأمل.. لعلها طاقات أمل تتفجّر على الدوام وتمنحه بلا توقف للآخرين فيُصابون بالعدوى المُزمِنة!!

تتجاور علامات التعجب بجوار بعضها البعض لتشكل أمراً استغلق عليّ فهمه عندما عرفت أميرة من خلال مدوناتها.. علامات التعجب هي أمر خاص بها وحدها.. وكأنها اقتصّت كل علامات التعجب من حروف اللغة واحتكرتها.. وكنت أتعجب لقراءة عنوان قصة لها ينتهي بسبع علامات تعجب وأحياناً تسع!!

لكني بعد قصة أو اثنتين تفهمت مغزى علامات التعجب ...

لقد اتسعت تلك الدنيا ومنحت أميرة براحاً لا حد له فنهلت من الواقع ومزجته بالخيال في كثير من الأحيان ولم يكن هذا ليزيدها إلا تعجباً ، هذا أقل ما يمكن أن يفعله الواقع لقلم مترع بالخيال.. إنه المزيد والمزيد من علامات التعجب!!

إنها تحاول في كتابها هذا أن تُصنِّف خيالها فيصعُب عليها ذلك فالخيالات تتشابه وجميعها تتعدى حد الجنون.. وتحاول أن تُجنّبه أحياناً فتجد الواقع قد دهسه حتى اختلط به فصار واقع الحكي جنوناً مطبق ..

ماذا فعلت إذن؟

لقد منحتني كتاباً تقول في أول أجزائه: إنها حواديت "تبدو" واقعية

التبس علي الأمر.. أهي الواقعية الخيالية؟ ما الذي تفعله بعقلي وحِسي ؟

بدأت أميرة بالحكي فأسلمت رأسي وتفكيري لحواديتها التي تَتَالت مؤرقة لسكوني في دأب واحدة بعد أخرى خدعتني بداية بحدوتة لطيفة اجتاحت كلماتها العامية في حوارات النساء.. عامية حميمة تجعلك تكاد تقسم أن فلانة تتحدث بلسان عمتك أو أن تلك لهجة أختك أو جارتك ..

في حدوتة "اليوم العالمي للبكاء" جاءت الفكرة مجنونة.. صاحبة البيت التي جمّعت صديقاتها ليتشاركن البكاء في حفلة خاصة!! استطاعت الكاتبة من خلال تلك الحفلة التي "بدت" واقعية أن تمسك مشرط الجرّاح وتفتح أوجاع النساء: المطلقة والأرملة والعانس والزوجة المكتئبة.. ببساطة وبحوارات منغمسة في ألم الواقعية بكت كل واحدة قليلاً على حالها الذي تشارك في صنعه ضعفها الإنساني ومجتمعها ظالماً لها او ظالمة هي له.. ظهرت أحشاء الحياة من بين حروف الوجع.. ولم تكتف أميرة بذلك الرصد لكنها طهّرت وتطهرت من لعنة البكاء هي والصديقات..

وفي الحدوتة التالية تركت أميرة حجرة الإستقبال في منزل سيدة متأنقة وذهبت بقلمها إلى طفلة صغيرة.. خادمة ريفية يحملها القدر إلى أسرة في المدينة ..فتحلم.. وتحلم..وكان "الفستان الأبيض" هو سيد الحلم والحدوتة.. مشاعر الخادمة قليلة الحظ والحيلة التي تملؤها الحياة بالحقد على من حولها ويتبدى لها الامل كل الأمل في ثوب أبيض.. مجرد ثوب .. كان السرد قوياً بلسان الصغيرة على ضعفها.. معبراً رغم عجزها.. حزيناً وواقعياً رغم كل شيء

ووصلت إلى "مكالمة الرابعة صباحاً".. وهنا تغزل الحكاية بل الحدوتة منذ البداية البعيدة فتحملك التفاصيل على بساط الريح إلى داخل كل بطل من أبطال حكايتها التي تحولت إلى ألف حكاية بل أن كل هامش صار حكاية.. تصر أميرة على صنع عدة أبطال لحكايتها.. فالجد بطل والأب بطل والأم العاجزة بطلة.. وكلهم كانوا في انتظار مَقدِم وميلاد بطلي القصة الأصليين!! ورغم هذا لا يتوه منها خيط الحكي بل يمتد ليكون النسيج من أروع ما يكون.. هي تحكي قصة حب.. بكل بساطة تحكي قصة حب لكنها سردت من خلالها الحياة ..

كم أسرتني تلك الطريقة المتفردة في حكي ما لا يُحكى أحياناً !!

لقد كان الإبحار في نفسية كل شخصية من شخصيات تلك الحكاية وكأنه البطل الاوحد هو أهم ما ميزها لكون تلك الشخصيات متباعدة الصفات ومختلفة الأفعال.. تمايزهم كان مقصوداً ولكنهالم تتوقف جلاداً يحاكم بل كانت تصف.. تسرد.. تروي وكأانها تروي للأبد وتدع الحكم العادل للقاريء وللزمن .. إن جاز لي التعبير ، إن ما لفت انتباهي في هذه الحدوتة هو صياغتها كحدوتة!! "كان يا ما كان" بينما كانت المفاجأة الأخيرة للقاريء تدع في رأسه سؤالاً بلا إجابة : أهي حكاية محض خيال أم أنها كما أسلفت في العنوان.. حكايا واقعية يتلبسها الخيال!!

"أمومة كاذبة".. كان عنواناً لنص قصير مُفعم بالتعابير الحادة الصارخة الصريحة.. لا مجال للمُجاملة والنفاق.. إنه الصمت إزاء الكذب!! لا تتعاطف أبدا أميرة مع امرأة لمجرد كونها امرأة.. لا تقع في هذا الفخ مَن خَبِرت كثيراً من النفوس.. لهذا ملّت دموع التماسيح لامرأة مُدعية للأمومة.. كذّبتها في صمت.. ووضعت إطاراً مُحدداً للحكم على الناس والأشياء: الأخلاق والمباديء أبداً لا تتجزأ.. لا تسمح به لكتاباتها أو لبطلاتها.. وهي أيضاً لا تتحيّز إلا لما تؤمن به.. تسرده في صراحة وتُشرك القاريء معها بعد أن تُمهد له الطريق للحُكم الصحيح ,,كانت أميرة هي الراوي الخبير والوحيد والشاهد على تيبُّس قلب إحداهن!! ونقلت لي مشاعرها تجاهها بكل وضوح وحسم...

"تبدو واقعية".. استعدت العنوان مُجدداً وأنا أتابع بعيني سطور"يوم حار في أغسطس".. تلك القصة التي أنهكتني وأتعبت عقلي وتسائلت :أصار الجنون واقعنا ؟ هل صار الأمر كذلك؟ بين الجنون والعقل شعرة بسيطة جداً.. هذا ما تريد أن تقوله أميرة ، حيز ضئيل جداً قد يدفعنا إليه "موقف" فنفقد أعصابنا.. نفقد تركيزنا وسيطرتنا على ذاتنا ونعبر حيز العقل إلى المساحة المجهولة البيضاء..فنتدافع عاجزين عن إثبات جدارتنا العقلية ..وعندما تقتنع تماماً بالنظرية المطروحة تلقي بك أميرة في أتون الحيرة حيث عليك أن تُعمل عقلك بشراسة كي تفهم ما حدث للبطلة التي أُوقِن أنها ستضحكك وتبكيك.. إنها براعة القص الذي يتعدى حد ما هو محسوس لما يجعلك تتوحد مع الشخوص وتحتل أماكنهم وتُجنّ معهم وتحزن لهم ..

ولكنها تعود لتطرحني وسط فورة شباب مُتحمس "صدقوا أنهم صناع التاريخ" تعترف أن القصة وهمية.. تؤكد مراراً أن القصة وهمية ولا تمت للواقع بصلة.. وتنجح في هذا الإيهام ببراعة الوصف الغير معقول.. وتصل لما هو حق.. تصل لما هو ليس وهماً : نحن لا نصنع التاريخ بالجُبن والخوف والتراجع والتخاذل بل نصنعه بالقوة والعدل.. القِلة القليلة لا تفعل شيئاً أمام الكثرة الفاجرة.. لكن القِلة يجب ألا تتخاذل وألا ترتعب وتجبُن.. عليها في الأساس ألا تكون قِلة.. عليها الاحتشاد لتصل لغاية المراد التاريخ يصنعه الأقوياء المؤثرون المتحمسون القادرون على حشد الحياة في صفهم وهذا ما يُحيل القصة إلى الواقعية في النهاية.. ويُعطها المذاق المُتفائل الذي لا تتنازل عنه الكاتبة دائماً وأبداً........

وتقول لي في عنوان الجزء الثاني أنها حواديت العشق والألم..لعلي خُدِعت.. إنها ليست بضعة حواديت عن العشق والألم بل هي ألم بطعم العشق.. أو لعله عشق بنكهة الحواديت ومُجدداً تطرح أميرة التساؤلات وتتركك في لُجّتها..

هل يُفسِدُنا الحلم؟ هل يُدمرنا؟ هل يفعل حقاً؟ قد يفعل الحلم المستحيل ما هو أكثر.. لم يكن محض خيال أن تتسائل أميرة في إحدى قصص هذا الجزء عن أفاعيل الحلم.. عن تسلطه وقوته الغاشمة التي تمتد طوال العمر.. كان غريباً التساؤل لكن الحكي كان كفيلاً بترويض الفكرة.. بتقريبها للوجدان العشق والألم يتحدان في حلم بائس يحيل حياة صاحبته لما يشبه الحياة

تأملت كلمات أميرة تملأ حلقي غصة كلما تخيلت قسوة الانتظار ومرارة الوهم ، أجل لقد انتزعت أميرة من داخل الكثيرين ذلك الحلم الصغير الذي حتماً كان بداخلنا وجعلته كائنا واضح الملامح يحيا على أوراق بيضاء.. وكأنه يقول لقارئها: كنت ستتأرجح على كرسي هزاز.. أو حبال وهم.. أو تتعلق بأغصان شجرة ألم مورقة بالعذاب لو فعلت كتلك البطلة ويقيني أن الكاتب القادر على خلق التساؤل هو الكاتب بحق.. إنه ذلك القادر بقلمه على جعلك أكثر قدرة على ارتداء حذاء البطل.. والإبقاء عليه أو قذفه بعيداً حين تصل.. لما يريد بك الوصول إليه!!

وهذا مافَعَلَته مُجدداً حين وضعت في عينيّ بطلتها في حدوتة تالية تلك النظرة الزجاجية.. وزرعت بجسدها برودة الرخام لتدفع عن نفسها عشقاً ضعيفاً لم يصُنها ولم يقدر عواطفها إنها العشق الذي ينطوي على الألم ويترفع عنه ليحيا في القلب.. فقط ، إنها تُعلي قِيَماً عدة فليس العشق استسلاماً لشهوة أو ضعفاً أمام حبيب.. العشق أسْمى.. وأجمله ما كان مُتبادَلاً فيه العطاء ، كيف تمنح بطلتها التالية كل مشاعرها لرجل يختصها بحبه في وقت فراغه؟لم تفعل.بل أبَتْ.. وتخلصت من العشق ولعلها لم تحيا بعده بألم ، كم تختلط الحواديت في هذه المجموعة بالألم.. للدرجة التي يتوقف فيها كل شيء ماعداه!!!

كان الحلم أحياناً هو الملاذ الذي تهرب إليه بطلة أخرى سَفَّه موهبتها زوج.. عشْق استحال إلى لامبالاة وذهب إلى المنطقة الرمادية الباهتة التي يحيا فيها طرفان مجرد حياة لعدم قدرة على مواجهة فكرة انفصال.. لعله قمة الألم.. لأن الانفصال ليس تباعد أجساد.. أبداً.. لكنه تنافر أرواح.. أسرّت الحروف بهذا في صخب صامت.. ولوحات ملونة تأخذ طريقها إلى القتامة بهدوء.

ولكن الحلم لم يكن دوماً بهذه القوة في حواديت أميرة.. لقد صرعته في قصص عدة وكان مصرعه ذات حدوتة على يد ماركيز.. أقرَّت حينها بقوة الواقع الذي تجسد في شعيرات بيضاء صنعت حاجزاً زمنياً بين القلوب.. ولعله كان الاعتراف الأقسى بالألم على الإطلاق.وكان مصرعه ذات حدوتة أخرى على قضيبيّ قطار لا يلتقيان حيث لا يُلَبّى الاحتياج!! حيث الحلم دخيل بين اثنين يبحث كلاهما في الآخر عمّا لا يستطيع منحه

إذن هو التوازي وهو الفراق.

الفراق الذي لم يكن حلاً في حدوتة أخرى حيث كان الزواج السري الثاني الذي حاكت تفاصيله بحرفية واقعيه و كان البطل فيها ألعوبة بين زوجتين كلتاهما تبتزه وكلتاهما لا تحبه فتحول الزواج في قصة علامات زرقاء إلى علاقة ابتزاز وانمحت منه حميمية المودة.. لم يجدا في الفراق حلاً بل كان الألم دافعاً للغرق في الألم ربما لمحاولة رد الظلم.. ربما.

لكن الأمر لم يخل أبداً من عشق بلا ألم.. عشق جميل بين فتى وفتاة حاولت الظروف كسر فرحتهما فلم تفلح.. وكان القمر "حداهم" يرقب تشبثهما بأهداب الفرحة رغم كل شيء الفرحة في القلوب.. هكذا أكدت أميرة في كل حرف سطرته.. العشق باق.. والألم باق كذلك ...

عندما تقرأ تلك الحواديت ينتابك قدر من السعادة لأنك تطوف بقلم جميل بين نفوس مختلفة تمام الإختلاف.. ينقلك القلم من حي شعبي إلى قرية نائية أو حي راق.. تلتقي بنماذج عدة من البشر وتتحد معهم جميعاً بلا جدال فالقلم كان دوماً قادراً على النفاذ إلى دواخل النفوس أياً كان موقعها على خريطة الحياة.. وبلا ملل تجد نفسك تقلّب الصفحات تغشاك السعادة مع السعداء.. وتحزن مع البائسين.. تعشق مع العاشقين.. ويمتليء قلبك فرحاً لكل نهاية سعيدة........

في الجزء الثالث من كتابها، تروي أميرة ما يروعك.. ويبهجك.. ويثير كل ذرات خيالك.. إنك لا تصدق أنك أسلمت رأسك لهذا القلم لينقلك لتلك العوالم الغريبة.. فتحاول انتزاع روحك من الأسر لكن لا فائدة.. إنها تتمكّن منك.. فيطاردك الأبطال في أحلامك ويرسمون علامات الإستفهام حول رأسك.. ربما تُرهِقك التساؤلات أيّما إرهاق ولكنك لن تستطيع الهرب من الأسئلة

ستفكر.. هل أنا بطل/بطلة تلك الحدوتة؟

هل يمكن أن يحدث لي هذا التماهي مع أبطالها؟

هل ما فعلته بي في حدوتة زهرة الروح حقيقة؟ وهل يمكنني أن أحيا مُجدّداً بجسد ولدي؟

يا إلهي هل تتحقق الخرافات وتتنازل المعجزات فتأتينا إلى أرض الواقع؟ هل تصيبنا اللعنات؟ وهل يدفعنا العلم بما لا يجب العلم به إلى الجنون؟ هل يمكننا الصمود أمام غيبيات لا يمكن لعقلنا الصغير الإتساع لها؟ هل سنتهاوى؟ هل أصدّق ذلك القلم؟ هل أكذبه؟

أياً كانت الإجابات فأنا على يقين من أنك ستظل أسيراً لوقت ليس بالقصير لسلسلة الحواديت المتصلة المنفصلة الماضية في آتون خيال لا حد له ..

لقد اتخذت أميرة نهجاً غير مألوف في السرد بزهرة الروح حيث تعدد الرواة.. تحدث كُلُّ بلسانه عن حاله مبرراً مفسراً مسهباً ولكن خيط الحكي لم يُفلِت أبداً.. وظلّ الحدث المتصاعد هو سيد الحكي بلا جدال

وإلى مزيد من الخيال..

انتابني الخوف في قصة المكتوب مامنوش مهروب.. خوف حقيقي تلبّسني حيث رسمت أميرة بدقة لوحة للعرافة الغامضة التي تحيا على شاطيء البحر في خيمة تمتليء بالرموز..تلك الرموز التي تساقطت من كلماتها وهي تحاول الهرب من مواجهة بطل القصة بما ينتظره.. ممازاد من من حيرته وأجّج ألمه وجعل الصورة المرسومة بالحروف أكثر رعباً ..

تعود وتؤكد في نصها أن معرفة ما يخبئه لنا الغيب ربما لن يزيدنا إلا ألماً.. تؤكد أن ما هو آتِ سيأتي وعلينا احتماله.. وتؤكد أخيراً أن الحب الذي نلتمس فك طلسمه هو سحر استحكمت حلقاته وعلينا فك أسره بالإستجداء!! خطوط الكف التي امتدت راغبة في راحة مرجوّة لم تنلها ولكنها رسمت براعة حكي غير تقليدي.. وكم كان تأملها رائعاً في حكمة الكون..

نحن حقاً نسير من ألم إلى ألم.

وعندما نتأمل ذلك الألم نتوقف عند سيدة أخرى.. بالأحرى سيدتان تبث إحداهما في الأخرى "الأمل" عن طريق كور الآيس كريم.. ماكر ذلك الحكي الخيالي الذي يرسم صورة غير معتادة لبث ذلك الأمل بطريقة مباغتة وكأنه حقنة تحت الجِلد !! حوار قصير كان تقريباً من طرف واحد وحيد.. من عجوز مجنونة لإمرأة عاقلة.. حوار يُحيل الجنون إلى حقيقة ويضع القاريء في خانة المُتفرج صاحب علامات التعجب الكثيرة!!

وبعد.. تصحبني أميرة في رحلة سفر

لعلها وضعتني في مجلة ملونة على طائرة تتجه لأعماق حلم

وتقول:الأمنيات لا تتحقق في البلاد البعيدة.. تصرخ الكلمات وهي تضع كل الحلول على ألسنة كل البطلات.. لا مجال لبطلة شاردة.. كل النساء بل كل الرجال صاروا أبطالاً في حواديت كان زادها الخيال.. تحملنا أجنحة الخيال إلى آبار التمني لنقف عاجزين أمامها.. متشبثين بقطعة معدنية لن يفيد إلقائها شيئاً.. نحن نتحقق بالحقيقة لا بالخيال هكذا نتحقق.. أحياناً

تتوالى الحواديت التي تتسق واحدة تلو أخرى كأنها ستشكل بالنهاية لوحة ما تُفاجيء قارئها وتلقيه إحداها في قاعة مظلمة على شاطيء بحر يسرق فيها وحيدان ليلة مجنونة!! هل يُمكن أن تمر الأحلام جميعاً دون حلم مجنون؟ حلم برقصة مجنونة بين غريبين تناديا في صمت؟ حلم بعنفوان وقوة ونشوة السعادة اللحظية بلا أية قيود؟ لم تكن الأحلام لتكتمل دون حلم كهذا يطل من بين الصفحات كأنه جذوة نار تُشعل النفس وتُزكي وقود الأحلام لتستمر..

وتأتي أميرة بحدوتة أخرى يرقص الألم على حروفها.. انتظار مرير لا يُبرره إلا جنون مُطبَق.. انتظار بلا طائل يدفع إليه أمل زائف.. يتحكم السرد في الحدوتة ويُحيلها إلى فقرات متقاطعة.. يلتف فيها الزمن حول القاريء فيُكبّلُه فلا يفهم إلا قبيل النهاية لغز الإنتظار.. ماهرة أميرة في ذلك الأمر حد البراعة فقد صاغت المُتناثرات السردية في رشاقة تُحسَد عليها لتصل بك إلى خيال غاضب من جنون!!

إنك تتبعثر على الفقرات مطمئناً لقلم الكاتب.. واثقاً أنه سيفاجئك في النهاية بما تحب وترضى...

ولكن خيالها في تلك الحدوتة المُباغتة أضحكني.. لم تكن حدوتة "المتناثرات من دفتر سري" إلا دراما حياتية أشبه بدراما الأفلام أو حكايا الجاسوسية أو تجنيد البشر بعضهم لبعض !! تنبهت خلايا دماغي وتأهّبْت لأحداث معقّدة.. فإذا بها تصرعني بفكرة الحب المُطلق!! أضحكتني أميرة

إن الحب المطلق المجرد هو بعض من خيال.. كم يثير هذا الضحك حد البكاء!!!

هذا ما أرادت أميرة قوله في حدوتة من أجمل حواديتها.. معنى غلّفته التفاصيل الغامضة والسرد الملغّز والنقلات المتكررة بين الزمن والتي جعلتني أتأرجح مع تهويمات البطل وإغماءاته وإفاقاته ولكنها أقرت في النهاية أن تلك الفكرة المطلقة لا تتم إلا عن طريق تنظيم سري!!!!

أتفهّم أخيراً علامات التعجب فتلك علامة التعبير الوحيدة المتاحة في اللغة والتي يمكن وضعها أمام أحوال البشر.. تلك الأحوال التي رصدتها أميرة في كتاب رائع اختبأت فيه وراء مسميات عدة ما بين الحلم والخيال والأمنية ولكنها بالنهاية كانت ببساطة تصف لنا الواقع

أليس الواقع أعجب دوماً من شطحات الخيال؟

وكما أسعدتني كل الحواديت.. وأسعدني الإبحار مع هذا القص الرائع النابع من قلب معايشة تجارب الآخرين وتفسيرها وتنميقها وزخرفتها بالخيال الخصب أترككم مع كتاب متفرّد للكاتبة الرائعة أميرة بهيّ الدين.. وقلبي يدعو لهذا القلم أن يستمر على عطائه.